كما اليوم, كان يومًا عاديًا من أيام الصيف. ونفسها كانت الشمس تخطو بكامل أشعتها في صباحٍ يُنذر بيومٍ حارٍ وطويل؛ لكنَّها لم تمنعه من ارتداء ثيابه المعتادة والخروج إلى عمله وهو يتقلّدُ وطنًا أكبر منّا جميعًا. استقل سيارته المرسيدس 190 وأدار محركها بتلقائية, مشى عدة أمتار قبل أن يتوقف لتصعد إلى جواره, ابتسمت لميس بجذل وهمّت بفتح باب السيارة حين أتت اللحظة! تلكَ اللحظة التي قد تبدو كدهرٍ بأكمله لو تمكننا من مراقبة كُل تفاصيلها دفعةً واحدة. تلكَ اللحظة التي قد تقتل الابتسامة, وقد تمزق جسدًا لتحوله إلى كتلةٍ من اللحم والدم المتفجرين! تلكَ اللحظة الغريبة والمعتادة!
واستشهد "غسان كنفاني".
غسّان الذي جعلنا نشمُّ البرتقال في
"أرض البرتقال الحزين" و نلوكُ "كعكًا على الرصيف". غسان الذي
أيقظنا لنطرق الخزان وكأننا جميعًا "رجالٌ في الشمس". غسان الذي جعلنا
نراها بأعين قلوبنا حين عدنا مع "عائدٌ إلى حيفا". غسان الذي جعلنا كلنا
أبناءً "لأم سعد".
غسان الذي رسم أول الخطوط في لوحة "أدب
المقاومة", و نادى بها قلمه مدويةً: أن حيَّ على السلاح وهو مُدركٌ تمامًا أنَّ المقاومة تبدأ دومًا بالفكر والكلمة لا بالفعل فقط. ولعلَّ هذا الإدراك وحده
كان كفيلاً بجعلهم يسعون خلف اغتياله غافلين عن حقيقةٍ قالها هو بنفسه: " ليس المهم أن يموت أحدنا, المهم أن تستمروا!".
غسان
كنفاني هو نفسه أيضاً من أمسكَ كلًا منّا من ياقة قميصه ليصرخ فيه: " لكَ
شيءٌ في هذا العالم, فقم!", هو من ربط القضية بإنسانيتنا حين أعلن: "إن
الإنسان هو في نهاية الأمر قضية", وهو وحده من قالها بملء فيه: "لا
أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي, أو أقتلع من السماء جنتها, أو أموت أو نموت معا"
نعم, لقد استشهد غسان ولكنه لم يفعلها إلا
بعد أن أصبح ندٌا, مُخلفًا وراءه أدبًا فلسطينًا خالصًا, نستحضره فيه كلما قرأناه
أكثر. استشهد بعد أن أصبح هو والوطن اسمان متلازمان: فلا تذكر فلسطين دون غسان ولا
يذكر غسان دون فلسطين. استشهد وقد نجح في أن يقدم لنا هذا الأدب الراقي الخالد
الذي يعبر عن الظلم والإنسان والأرض والوطن ويستمر بديمومتهم جميعًا!
كما اليوم استشهد غسان كنفاني, هل قلت أن
الشمس كانت نفسها؟ خانني التعبير, فهل لها حقاً أن تكون نفسها بعد رحيل غسان؟
غسان كنفاني في حضرة مكتبته في بيروت |