الأحد، 30 سبتمبر 2012

الأحد، 8 يوليو 2012

غسان.. ندًا



كما اليوم, كان يومًا عاديًا من أيام الصيف. ونفسها كانت الشمس تخطو بكامل أشعتها في صباحٍ يُنذر بيومٍ حارٍ وطويل؛ لكنَّها لم تمنعه من ارتداء ثيابه المعتادة والخروج إلى عمله وهو يتقلّدُ وطنًا أكبر منّا جميعًا. استقل سيارته المرسيدس 190 وأدار محركها بتلقائية, مشى عدة أمتار قبل أن يتوقف لتصعد إلى جواره, ابتسمت لميس بجذل وهمّت بفتح باب السيارة حين أتت اللحظة! تلكَ اللحظة التي قد تبدو كدهرٍ بأكمله لو تمكننا من مراقبة كُل تفاصيلها دفعةً واحدة. تلكَ اللحظة التي قد تقتل الابتسامة, وقد تمزق جسدًا لتحوله إلى كتلةٍ من اللحم والدم المتفجرين! تلكَ اللحظة الغريبة والمعتادة!

واستشهد "غسان كنفاني".

غسّان الذي جعلنا نشمُّ البرتقال في "أرض البرتقال الحزين" و نلوكُ "كعكًا على الرصيف". غسان الذي أيقظنا لنطرق الخزان وكأننا جميعًا "رجالٌ في الشمس". غسان الذي جعلنا نراها بأعين قلوبنا حين عدنا مع "عائدٌ إلى حيفا". غسان الذي جعلنا كلنا أبناءً "لأم سعد".

غسان الذي رسم أول الخطوط في لوحة "أدب المقاومة", و نادى بها قلمه مدويةً: أن حيَّ على السلاح وهو مُدركٌ تمامًا أنَّ المقاومة تبدأ دومًا بالفكر والكلمة لا بالفعل فقط. ولعلَّ هذا الإدراك وحده كان كفيلاً بجعلهم يسعون خلف اغتياله غافلين عن حقيقةٍ قالها هو بنفسه: " ليس المهم أن يموت أحدنا, المهم أن تستمروا!".

 غسان كنفاني هو نفسه أيضاً من أمسكَ كلًا منّا من ياقة قميصه ليصرخ فيه: " لكَ شيءٌ في هذا العالم, فقم!", هو من ربط القضية بإنسانيتنا حين أعلن: "إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية", وهو وحده من قالها بملء فيه: "لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي, أو أقتلع من السماء جنتها, أو أموت أو نموت معا"

نعم, لقد استشهد غسان ولكنه لم يفعلها إلا بعد أن أصبح ندٌا, مُخلفًا وراءه أدبًا فلسطينًا خالصًا, نستحضره فيه كلما قرأناه أكثر. استشهد بعد أن أصبح هو والوطن اسمان متلازمان: فلا تذكر فلسطين دون غسان ولا يذكر غسان دون فلسطين. استشهد وقد نجح في أن يقدم لنا هذا الأدب الراقي الخالد الذي يعبر عن الظلم والإنسان والأرض والوطن ويستمر بديمومتهم جميعًا!

كما اليوم استشهد غسان كنفاني, هل قلت أن الشمس كانت نفسها؟ خانني التعبير, فهل لها حقاً أن تكون نفسها بعد رحيل غسان؟

على روحكَ السلام, وتستمر المقاومة! 


غسان كنفاني في حضرة مكتبته في بيروت

الثلاثاء، 26 يونيو 2012

قراءة في رواية "أولاد حارتنا"


بعد هذا الصخب المطول الذي دار حول "أولاد حارتنا", قررتُ جعلها أول ما اقرأ من روايات للكاتب الأيقونة نجيب محفوظ.


ولأنها الأولى فحسب, ولأنه كاتبٌ أفنى قرناً إلا قليلاً في الكتابة, فسوف يكون من الإجحاف أن أُطلق حكماً قاطعاً على الكاتب وأسلوبه بعد هذه الرواية فقط.


تناولت "أولاد حارتنا" الحديث عن قصة حارة الجبلاوي وما مرَّ عليها من أولادٍ عظماء. وتبدأ القصة بالجبلاوي نفسه الذي أسس بيتاً كبيراً تحيط به حديقةُ غناء في وسط منطقة صحراوية! وبدأت العثرة حين اصطفى الجبلاوي أصغر ابناءه "أدهم" لإدارة الوقف دوناً عن إخوته الأكبر منه, مما أثار حفيظة الأخ الأكبر "إدريس" والذي أعلن رفضه لقرار والده بشكلٍ علني, فقام الجبلاوي بطرده بلا رحمةٍ من بيته. وكما كُتب للشقيِّ أن يكون استمر "إدريس" في صبِّ ويلاته على البيت الكبير بأسره حتى أغوى "أدهم" بارتكاب أُمِّ المعاصي إذ حرضه على الاطلاع على كتابِ والدهم في غيابه. وبتحريضٍ من زوجته "أميمة", استجاب لطلب "إدريس" لكنَّ الوالد يكتشفُ سوءة "أدهم" و زوجته فيطردهما معاً من جنتهِ إلى الخلاء!

وتستمر الرواية فيما يتجاوز الخمسمائة صفحة في سرد سيرة أهل الحارة والتي تمثل الصراع الدائم بين الخير والشر. ويتضح لنا كيف أنَّ القصة برمتها ما هي إلا إسقاط لقصة الله _تباركَ وتعالى_ وقصة آدم وإبليس, ويكمل نجيب هذا الإسقاط على قصص الأنبياء في بقية الشخصيات: فجاء "جبل" ليرمز لموسى عليه السلام, و"رفاعة" هو عيسى. وأخيراً "قاسم" هو محمد صلى الله عليه وسلم.  كما عرجَّ الكاتب أيضاَ على قصة قابيل وهابيل من خلال "قدري" و "همام" ابنيّ "أدهم" في الرواية.

وقد كان هذا الإسقاط مكمن الخلاف بين النقاد الذي جعلوا لهذه الرواية نصيباً من نقدهم وقراءاتهم. وما أراه شخصياً هُنا كان استغلالاً قدم لمحفوظ قالباَ جاهزاً يبني عليه قصةَ تدور حول صراع الدين والعلم. ولربما كان لهذا الإسقاط الدور الأكبر في تسرب الملل إلى نفسي أثناء القراءة؛ إذ أنني كنتُ أًلمُّ بالنهاية قبل أن أصل إليها!
كلُّ هذا لا ينفي كون أسلوب الرواية أسلوباً مشوقاً متيناً ومتسلسلاً وقادراً على جذبكَ معه حتى النهاية, كما وكان مُشجعاً جداً على أن اقرأ المزيد من الكتب لنجيب محفوظ.

الأحد، 22 أبريل 2012

فُسْحَة




وككل يومٍ: تُصدر أقلام الرصاص صريرها الباهت على الكراساتِ, تُشكِّل الحروف خطوطهم الصغيرة والمضطربة والتي لم تنضج بعد. تجلس أجسادهم الصغيرة باضطرارٍ على مقاعدهم الدراسية المهترئة, يحاولونَ دفع الوقتِ كيفما اتفق, لكنَّ العَشْرة دقائق الأخيرة تكون الأطولَ دوماً! تشرئبُ الأعناق التي _مهما طالت_ تظلُّ عاجزةً عن وصول حافة النافذةِ دون شبهِ وقوفٍ سريع. ويضيعُ مجهودُ المعلمةِ سدىً كلما حاولتْ استغلال تلك اللحظاتِ الأخيرة في حلِّ تمرينٍ جديد, إذ لا طباشير ملونة ولا لعبة جديدة ولا أسلوبَ مرحٍ قد يستجلبُ كاملَ انتباههم الآن! تستفزهم الأشياء كُلَّها_ حتى الهواء_ لتراهم يختلقونَ شِجاراً من اللاشيء, وقدْ تتوقف كلُّ حواسهم أحياناً عنْ العمل عدا السمع الذي يرهفونه تماماً حيثُّ يخيّل لهم دوماً أنَّ آذانهم التقطت رنينَ جرسِ "الخلاص"!

يدّقُ أخيراً.

ينفلتونَ من حبْسِهم, يحلِّقون كأفراخِ حمامٍ تعلّمت لتوها كيف الطيران في سماءِ ساحةِ المدرسة المكتظةِ بِهمْ, يتبخرون! يتناثرون كحباتِ مَسْبحةِ شيخٍ وقور, قُطع خيطها على حينِ غفلة. ينهمرون كغيثٍ ربيعيٍ مُفاجئ, يركضون نحو مقصف المدرسة كأمواج بحرٍ من وجوه. يتزاحمون, يتجاذبون, يتدافعون, يتشابكون, يلتحمون, يتعاركون. يَسْقُطُ ما اشتراه أحدهم تحتَ الأقدام, يَنْسَحِقْ. يختفي الوجه الباكي في غيمة غبارٍ مولودةٍ من تدافعهم اللامنتهي!

الدمعةُ غدت شحوباً كسا وجه شعبي وامتزج بالجلد تماماً, ليصبحَ ميزة! فكَكُلِّ الأيام: ننتظر, يحينُ الوقت, ننفَلِتْ, نركضْ, نتدافعْ, نتشابك, نلّتحم, نتعاركْ. يسقطُ كيسُ طحينِ أحدهم عند استلام "كوبونة" المؤن كلَّ شهر, تسقطُ ربطةُ خُبْزِ أحدهم في زحام المخبز ذاتَ أزمة, تَنزْلِقُ زجاجةُ الكاز من يدِ غزيٍّ يومَ حصار, تسقطُ الروح في انتظار تيارٍ كهربائي كُلَّ عَتْمة. نَنْسَحِقْ. تختفي الوجوه الباكية في غيمة غبارٍ مولودةٍ من انتظارنا اللامنتهي!

يدّقُ الجرس ثانيةً.

ينحسرُ مدُّ الأطفالِ إلى صفوفهم مجدداً. وينحسرُّ كلٌّ منَّا إلى قوقعةِ انتظاره مُجدداً. نجلس باضطرار, ونحاول دفع الوقتِ كيفما اتفق, ولكنَّ تلكَ الدقائقْ الأخيرة تكونُ الأطولَ دوماً! 


الخميس، 19 أبريل 2012

حتى أنتَ يا يوسف؟


الجامعة الإسلامية - غزة

لن أنسى أبداً كيف اغرورقت عينا أمي بالدموع, وكيف اختال أبي فخوراً يوم تخرجي الميمون. ولم أشعر أنا سوى بانتشاء المنتصر بعد معركةٍ دارت رحاها لأربع سنوات على التوالي. ولم يُكلل ذاك كُله إلا مجموعيَ الذي أهَّلَني لأكون معيدةً في جامعتي العريقة.

لمْ يُبارحني سوءُ الطالعِ طوالَ حياتي, فكان أمرُ هذه النعمة التي أغدقني بها الله مدعاةً لمفاجئتي! ولكنني استبشرتُ خيراً لعلَّ الحظَّ قد تغيرَ فعلاً هذه المرة وإلى الأبد. وفي اليوم الأول من عملي ودعتني أمي وهي تعلق عليَّ دعائها ليحرسني من أعين الحاسدين, وذهبت إلى الجامعة لأستقبل مباركات كلِّ من صادفني. و اعتراني الزهو حقاً بما أنا فيه الآن_ ولكنها البداية فقط!

لا أدري كم مضى من الوقت حقاً قبل أن تنكسر تلك القشرة الزائفة التي تخبئ كلمة "معيد" تحتها, فبكل بساطة المعيد هو أدني المخلوقات في السلسلة العُمَّالية في الجامعة! وحتى الآذنة "أم أنس" كانت ترمقنا دوماً_ نحن المعيدات_ بتلكَ النظرة المُشفقةِ لحالنا. فنحنُ مجرد عاطلين عن العمل, وفّرت لهم "مستعمرة" وكالة الغوث "بطالةً مُقنعة" لمدة عام, تَقبضُ فيها "أم أنس" وحدها ضعف ما نقبض نحن في سنتنا اليتيمة هذه!

ولمْ يقتصر الأمر على "أم أنس" وحدها بل تعدى الأمر إلى الطلبة الذين نشاركهم محاضراتهم مع الأستاذ الذي وُجدنا لنساعده, وانقسمت الطالبات في هذا الأمر إلى فئتين: طالباتٌ يخطبنَّ ودنا ظناً منهم أننا نملكُ من أمرِ الدرجات شيئاً, وطالباتٌ يتصيدنَّ الزلات البريئة التي قد نقعُ فيها ليبدأ بعدها سيلُ التجريح: "معيدة وبتغلط", "على إيش صارت معيدة", "معيدة وشايفة حالها" ...الخ.

وليزداد الأمر بلةً, تجدُّ كل الأساتذة يسخرون منكَ سراً, ويُسخِّرونكَ علناً. ومجرد امتعاضٍ قد يظهر على محياكَ أمامهم, يدفعهم إلى تذكيركَ أنكَ محضُ طالبٍ لفحته ريحُ حظٍ فغدا معيداً بائساً.

بعد يومٍ مُنْهكٍ حتى الثمالة, أعودُ مثقلةَ بوطأة ذاك الذل/ الشرف. يستقبلني يوسف_ابن الجيران ذي الثماني سنوات. يزيحُ عني كلَّ الهم ببراءة عيونه الضاحكة, يقف أمام باب بيتي, يسألني
- " من وين روحتي؟"
  "من الجامعة".
 "بتُدرسي مع منار أختي؟"
   "لأ يا يوسف, أنا معيدة".
-  " يعني شو معيدة؟ سقطتي بمادة و بتعيديها؟".
-    ...

ابتلعتُ الغصَّةَ ومضيت.

تمت



الجمعة، 13 أبريل 2012

هل سأخرج؟


ها أنا عالقٌ هاهنا الآن, مؤشر بطارية هاتفي النقال تشير إلى المنتصف, ولا أمل في أن تستجيب الشبكة لمحاولاتي المتكررة للاتصال بأحدهم.
لقد كان هاتفي هذا هدية تفوقي في الثانوية العامة, كانت تلك طريقة والدي في التعبير عن سعادته العارمة يومها. وأذكر كيف ذكرني بحلم مستقبلي قائلاً: "وأخيراً سأراكَ طبيباً يا سعيد".
كان من المقرر حينها أن أكمل دراستي الجامعية في الخارج, ولكن يبدو أنه من لم يُقدر لي هذا. وفكرة أن أرحل بلا عودة كانت مرفوضة تماماً لدى والدي, فلم أجد مفراً سوى الالتحاق بكلية الطب هنا. في الواقع لم يكن الأمر مخيباً للآمال كما ظننت, فكل ما نغص حياتنا وقتها هو انقطاع التيار الكهربائي المستمر, وأزمة غلاء الأسعار, ومنع عمي من العلاج خارجاً, وأزمة المواصلات فقط!
...
كم تبدو تلك الأيام سعيدةً مقارنةً بالآن. حسناً, لن يطول الأمر لأكثر من ساعة!
...
مرَّ عامٌ. قُصف بيتنا. لم يتضرر معظم البيت إلا غرفةٌ واحدة, كان والدي بداخلها.
مرَّ عامٌ وأنا أتجنب تلك الغرفة, منذ ذاك الوقت وأحسني لازلت أشمها.
حتى هنا في حفرتي الضيقة.. أشمُّ رائحة لحمٍ محروق!
وكان ألمي أكبر من البكاء, فلم أبكِ وفاة والدي!
فجأةً أصبحتُ معيل الأسرة الوحيد, لم يكن هناك بدٌ من أن أبحثَ عن عمل, بحثت مطولاً
إلى أن همس في أذني أحدهم: "أعمل معي بحفر الأنفاق يا سعيد, لن تجد فرصةً أفضل."
...
لا ينفك هاتفي يشيرُ إلى ضعف بطاريته.
...
ودعتني أمي بكفٍ من دعاء. ودعتني دون أن تعلم بطبيعة العمل؛ فهي لم تعد تطيق أن ينام أخوتي بمعدات خاوية لليلة أخرى.
بدأنا بالحفر, وبدء الرمل بالتساقط من سماء النفق المعتمة, ورغم أنني كنت ملثماً إلا أن الرمل وجد طريقه إلى فمي, وشرب الماء زاد الأمر سوءاً. ضحك رفاقي_دون التلثيم_: "غداً ستعتاد الأمر".
أشحت بتفكيري عنهم, وأمعنت بتذكر البحر حيث كنت أقضي معظم أوقاتي في ممارسة هواية الغطس! أيقظتني نقطة عرقٍ انحدرت باردة على ظهري. حتى تلك تشوبها الرمال!
...
يئن هاتفي الآن, وأعلن عصيانه وانطفأ.
...
تُرى كم من وقتٍ وأنا عالقٌ في منتصف هذه النفق؟ سبقني رفاقي بالخروج, ولم تنفعني دعوات أمي؛ فانهار المدخل قبل أن أخرج. حتماً سيأتون لإنقاذي الآن.
أحسُّ البرد بأوصالي, وأحسُّ بدفء الأرض تحتي وكأنها تهدهدني لأنام. في الأفق يبدو نور قادم من البعيد, أُحسُّني سألمسه!
ترنيمة أسمعها الآن. دعوة أمي, جوع أخوتي, رائحة لحم محروق, وطعم البحر المالح!







الخميس، 5 أبريل 2012

فَنَـــــــــــــارْ



الشمسُ عموديةٌ, والجو قيظ.
جلس على مقعد الحديقة كمغتربٍ تاه بين مطاراتِ الرحيل. يَعُدُّ خطوط يده, وكأنه يراها لأول مرة. وكنائمٍ استيقظ لتوّه, حدق فيمن حوله فجأة. راقب طفلاً يناور أمه لتَلتفتَ إليه, ابتسم. مثله كان في أرجاء بيتهم البائس, يستجدي أمه أنّ تلتفتَ إليه, كانت تلتفتُ وتبتسمُ ليُكدّرَ خطُ شقاءٍ صفحةَ محياها الوضاء, ثم تخرجُ لتعود بكيس طحين.
..
وقفت تُحدق فيه بعيداً, تعالج قسمات وجهه التي تُذكرها بخيبةٍ ما. تسيرُ دون أن تتزحزح عيناها عنه, ليرسم مسيرها دائرةً هو مركزها. تتفحصه بأبعاده الثلاثة, وكأنها تحاول أن تخترق ما بداخله, تَفْشَل. تعود لتقف أمامه بعيداً, تنتبه فجأةً لمناورة الطفل حول أمه, تبتسم. مثله كانت في أرجاء منزلهم البارد, تستجدي أمها أنّ تلتفتَ إليها, كانت تلتفتُ وتبتسمُ ثم تخرجُ لتعود بعشيقها.

الشمسُ عموديةٌ, والجو قيظ.
أسند رأسه إلى المقعد, أغمض جفنيّه ليريح عينيّه من لهيب الهجير. حاول استجماع لعابه ليداري إحساس عطشٍ ألهبَ جوفه, قرر أن يُفكر بأمرٍ ما يُنعشه, ولكن ضجيج الناس حوله أعادَ ضجيجاً قديماً ملأ نفس الأذن منذ أعوامٍ طوال. ركض يومها مع أخيه إلي سيارات "الأنروا" لجلب الماء. امتلأ الدلوان سريعاً, فحملاهما على رأسيهما وسارا بثقلٍ إلى بيتهما. استدار أخوه حين سمعَ صوت "فنارٍ" صغير. تبع الصوتَ الذي استدرجه إلى أطراف المستوطنة, طلقةٌ واحدة أخرست أخاه والفنار إلى الأبد!
..
راقبته كيف استرخى على المقعد غير مكترثٍ بأحد, تساءلت ما الذي قد يفكر فيه وهو مُغمضُ العينين وسط هذا الضجيج. دارت حوله ثانيةً, لفحها وهج الشمس, نظرت إليها, ثم نظرت إليه؛ فأعماها لمعان نجمةٍ ما يضعها حول عنقه. استفاقت سريعاً من نوبة عمىً باغتتها. وأحسَّت أنَّ عقلها تبَّخر مع الحرارة, ليُخلفَّ جنونها فحسب. أغمضت جفنيّها لتريح عينيّها من لهيب الهواء حولها ثم قررت أنّ تُفكر بأمرٍ ما يُنعشها, تخيّلته مسترخٍ أمامها في حوض ماءٍ بارد.

الشمس عموديةٌ, والهواء يقظ!
تَفَصَدَّ العرق من جبينه, وبتلقائيةٍ مدَّ يده ليمسحه. فتحَ عينيه, نظر حوله, كان هناك الكثير من الناس. "لا, لا يكفي أريد أكثر" قال مُحدثاً نفسه. تحسس ثِقَلَ سُترته, احتضنها وكأن الشتاء حلَّ فجأةً, وكان حزامه المُعبأ بالموت يخنقه. لمحها فجأةً تتجه إليه, شُلَّتْ قدماه, تسمَّرَ في مكانه ثم تصبب عرقاً.
فَتَحَتْ عينيّها, أَدْركتْ أنه يتأهبُ للرحيل, كانت تلكَ فرصتها الأخيرة لتُحادثه, اتجهت إليه. كانت تتصببُّ عرقاً, توقفت قليلاً لتمسح جبهتها, وقفت أمامه أخيراً. نقطةُ عرقٍ أخرى هبطت من جبهتها, وكأنما تُريد أن توقظها. الشمس عموديةٌ, الجو قيظٌ, لمعان نجمة داوود المزيفة حول رقبته, سترتهُ الشتويَّة, قسماته العربية! دار بها الكون, كيف لم تدرك الأمر منذ الوهلة الأولى, أطلقت نداء تحذير من "الماخشير" خاصتها, لتُنبه بقية عناصر جيش الدفاع. احتضنتْ رشاشها, غرست فوهته في جبهته, شُلَّتْ قدماها, تسمَّرت في مكانها ثم تصببتْ عرقاً.
..
الْتقت نظراتهما, فاض الحقد من الأحداق. كادت تضغط على الزناد, لكن الموت حَملها إلى المجهول.







الخميس، 22 مارس 2012

في مدينتنا قطار

تجاوزت الساعة الثالثة عصراً, وعلى الرغم من أنَّ دوام عملي ينتهي في تمام الثالثة بالضبط, إلا أنني فضلت الانتظار لبرهةٍ علَّ زحام ساعة الذروة يذوب قليلاً. ولكن لا مناص, فلم أكد أصل إلى الشارع المحاذي لمكان عملي, لأجد الجموع الغفيرة تنتظر كأيتامٍ أضناهم الجوع بعد يوم عملٍ طويل. كلٌ كان ينتظر سيارةً تقله إلى حيث يقطن, وفي ظلِ أزمة لا أكاد أفهم كنهها كان الأمر يحتاج معجزة من نوعٍ ما, لنصل إلى بيوتنا في دقائق_ كما هو مفترض.
لا أعلم لِمَ يفقد سائقو سيارات الأجرة رغبتهم المقيتة في إيصال الناس إلى بيوتهم في ساعة الحشر تلك! يمط أحدهم شفته السفلى بدلالٍ يدعو للسخط, ويتمنع حتى عن تهدئة سرعة سيارته ليسمع وجهة كلٍ منا. وبعجزٍ يائس نظل نحن ننتظر "الفرج", ويُفضِّل من بقي فيه فضلٌ من طاقةٍ السير قليلاً, فربما زاره الحظ في بقعةٍ أخرى غير هذه الملعونة.
وقفت انتظر وقصيدة "أحمد العربي" تصدح في مخيلتي, بعد أن دسست سماعات هاتفي المحمول في أذنيَّ لأتجنب ذاك الضجيج الخانق. وانخرطت في مونولوجٍ فردي حزين.
"وكنت وحدي, ثم وحدي, آه يا وحدي!"
وكانت السيارات تتجاهلني بشكل متعمد, وكنت أحرك يداي كقائد أوركسترا ممسوس.
"عشرين عاما كان يسأل .. عشرين عاما كان يرحل/عشرين عاما لم تلده أمه إلا دقائق, في إناء الموز!"[1]. وبرز السؤال في رأسي كفقاعة صابون: لماذا اختار درويش إناء الموز بالذات؟ قطعت حيرتي سيارة أجرة صفراء بلون الموز, ونظر السائق إليَّ مشفقاً لأن سيارته كانت قد امتلأت للتو.
في خضم كل ذاك, اخترق صوتٌ ما سماعات أذني, فما كان مني إلا الالتفات نحو مصدر ذاك النفير الغريب. كان الصوت صوت بوق, يختلف عن بقية أبواق السيارات الأخرى. ظهر خيالٌ ضخم على امتداد بصري لعربات لونها أحمر طفولي. اعتراني الذهول لوهلة, إنه قطار! 
وبلون أصفر _كالموز أيضاً_ كُتب: "قطار غزة الترفيهي للرحلات وللأفراح". قرأتها وأنا أغالب ضحكة مريرة اجتاحتني على حين غرة, وسرت عدوى الضحك بين الجمع المنتظر وكأن الجميع كان يتوق إلى أمرٍ يخفف وطأة الانتظار. تلقائياً أوقفت استرسال القصيدة التي كنت اسمعها, و كمن اكتشف لعبةً جديدة, صرت أحدق بركاب القطار وكأنهم أسماك زينة داخل حوضهم المزين. لأفاجأ بسائق القطار يصيح: "يلاَّ جلاء .. يلاَّ الشيخ رضوان"[2], فتدافع البعض للركوب غير آبهين بسخرية البقية.
فكرت ما الذي قد يحوّل قطاراً_ أو تلك العربات الثلاث المربوطة معاً بطريقةٍ ما_ إلى سيارة أجرة كبيرة؟ كل الأمر بدا مؤلماً ومضحكاً سوياً. انتشلني من حيرتي رجل عجوز كان ينتظر بجانبي: "إيه ساق الله أيام زمان يا عمي لما كنَّـا نركب القطار بجنيه[3] و نروح على مصر!"
تيقظ ذهني على حقيقة غابت عني, نعم هذا ليس أول قطارٍ في غزة! نعم, كان هناك قطار, قطار حقيقي, قطار يتصاعد منه البخار, ولم يكن للترفيه أو للأفراح, ولم يتحول إلى سيارة أجرة قط! وكانت له سكة حديد, نعم تلك نفسها التي أقيم فوق بقاياها "سوق السكة" في حيّ "الشجاعية" شرق غزة. كانت سكة الحديد تلك تصل إلى الشمال: إلى سوريا ولبنان و رأس الناقورة وعكا وحيفا ويافا, وتخترق المدى إلى غزة, ومن ثم تتابع الدرب إلى مصر. 
كان هناك قطار, بلا حدود. 
قطار, وجموع غفيرة تنتظر, ولكن بلا بؤس!
جاء "الفرج", و وجدت سيارةً تقلني للمنزل, أعدت تشغيل القصيدة من جديد.
"وأعدُّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
و تتركني ضفاف النيل مبتعداً
وأبحث عن حدود أصابعي فأرى العواصم كلها زبداً"[4]

___________________

[1]من قصيدة "أحمد العربي".

[2] أحياء في مدينة غزة

[3]الجنيه الفلسطيني.

[4]من نفس القصيدة السابقة.

غزة في ظل أزمة المواصلات حالياً 2012