الخميس، 5 أبريل 2012

فَنَـــــــــــــارْ



الشمسُ عموديةٌ, والجو قيظ.
جلس على مقعد الحديقة كمغتربٍ تاه بين مطاراتِ الرحيل. يَعُدُّ خطوط يده, وكأنه يراها لأول مرة. وكنائمٍ استيقظ لتوّه, حدق فيمن حوله فجأة. راقب طفلاً يناور أمه لتَلتفتَ إليه, ابتسم. مثله كان في أرجاء بيتهم البائس, يستجدي أمه أنّ تلتفتَ إليه, كانت تلتفتُ وتبتسمُ ليُكدّرَ خطُ شقاءٍ صفحةَ محياها الوضاء, ثم تخرجُ لتعود بكيس طحين.
..
وقفت تُحدق فيه بعيداً, تعالج قسمات وجهه التي تُذكرها بخيبةٍ ما. تسيرُ دون أن تتزحزح عيناها عنه, ليرسم مسيرها دائرةً هو مركزها. تتفحصه بأبعاده الثلاثة, وكأنها تحاول أن تخترق ما بداخله, تَفْشَل. تعود لتقف أمامه بعيداً, تنتبه فجأةً لمناورة الطفل حول أمه, تبتسم. مثله كانت في أرجاء منزلهم البارد, تستجدي أمها أنّ تلتفتَ إليها, كانت تلتفتُ وتبتسمُ ثم تخرجُ لتعود بعشيقها.

الشمسُ عموديةٌ, والجو قيظ.
أسند رأسه إلى المقعد, أغمض جفنيّه ليريح عينيّه من لهيب الهجير. حاول استجماع لعابه ليداري إحساس عطشٍ ألهبَ جوفه, قرر أن يُفكر بأمرٍ ما يُنعشه, ولكن ضجيج الناس حوله أعادَ ضجيجاً قديماً ملأ نفس الأذن منذ أعوامٍ طوال. ركض يومها مع أخيه إلي سيارات "الأنروا" لجلب الماء. امتلأ الدلوان سريعاً, فحملاهما على رأسيهما وسارا بثقلٍ إلى بيتهما. استدار أخوه حين سمعَ صوت "فنارٍ" صغير. تبع الصوتَ الذي استدرجه إلى أطراف المستوطنة, طلقةٌ واحدة أخرست أخاه والفنار إلى الأبد!
..
راقبته كيف استرخى على المقعد غير مكترثٍ بأحد, تساءلت ما الذي قد يفكر فيه وهو مُغمضُ العينين وسط هذا الضجيج. دارت حوله ثانيةً, لفحها وهج الشمس, نظرت إليها, ثم نظرت إليه؛ فأعماها لمعان نجمةٍ ما يضعها حول عنقه. استفاقت سريعاً من نوبة عمىً باغتتها. وأحسَّت أنَّ عقلها تبَّخر مع الحرارة, ليُخلفَّ جنونها فحسب. أغمضت جفنيّها لتريح عينيّها من لهيب الهواء حولها ثم قررت أنّ تُفكر بأمرٍ ما يُنعشها, تخيّلته مسترخٍ أمامها في حوض ماءٍ بارد.

الشمس عموديةٌ, والهواء يقظ!
تَفَصَدَّ العرق من جبينه, وبتلقائيةٍ مدَّ يده ليمسحه. فتحَ عينيه, نظر حوله, كان هناك الكثير من الناس. "لا, لا يكفي أريد أكثر" قال مُحدثاً نفسه. تحسس ثِقَلَ سُترته, احتضنها وكأن الشتاء حلَّ فجأةً, وكان حزامه المُعبأ بالموت يخنقه. لمحها فجأةً تتجه إليه, شُلَّتْ قدماه, تسمَّرَ في مكانه ثم تصبب عرقاً.
فَتَحَتْ عينيّها, أَدْركتْ أنه يتأهبُ للرحيل, كانت تلكَ فرصتها الأخيرة لتُحادثه, اتجهت إليه. كانت تتصببُّ عرقاً, توقفت قليلاً لتمسح جبهتها, وقفت أمامه أخيراً. نقطةُ عرقٍ أخرى هبطت من جبهتها, وكأنما تُريد أن توقظها. الشمس عموديةٌ, الجو قيظٌ, لمعان نجمة داوود المزيفة حول رقبته, سترتهُ الشتويَّة, قسماته العربية! دار بها الكون, كيف لم تدرك الأمر منذ الوهلة الأولى, أطلقت نداء تحذير من "الماخشير" خاصتها, لتُنبه بقية عناصر جيش الدفاع. احتضنتْ رشاشها, غرست فوهته في جبهته, شُلَّتْ قدماها, تسمَّرت في مكانها ثم تصببتْ عرقاً.
..
الْتقت نظراتهما, فاض الحقد من الأحداق. كادت تضغط على الزناد, لكن الموت حَملها إلى المجهول.







هناك 3 تعليقات:

  1. أسجل بصمتي لأعود ( على فضاوة ) أستمتع بهذه القصة الرائعة وطبعا لي تعليق آخر إن شاء الله

    للامام أخت نور

    ردحذف
  2. أقرأ هنا عنفوان الكتابة وسيطرة الفكرة ، أبهرني اسلوب المقاطع المتتابعة والتي تحمل في كل منها ايضاحا جديدا ياخذنا للمقطع التالي محمّلين بكل الأحداث ، عناوين المقاطع كانت تضع نقطة في أول السطر ، عندما اصبح الهواء يقظا تسارعت الأحداث وأنتفض كل من في المكان وأخذت ضربات القلب تتسارع
    الغموض سمة جميلة جدا في القصة تجعلك تقرأ وتعيد القراءة وفي كل مرة تسمتع أكثر
    للنهاية شكل مختلف دوما يضعك على طريق اعادة القصة لتقرأ من جديد
    العنوان "فنار" روح النص والفجر القادم ما بعد المجهول
    قصة رائعة ، تقرأ ليدوم جمالها داخل العقل اكثر

    ردحذف