تجاوزت الساعة الثالثة عصراً, وعلى الرغم من أنَّ دوام عملي ينتهي في تمام الثالثة بالضبط, إلا أنني فضلت الانتظار لبرهةٍ علَّ زحام ساعة الذروة يذوب قليلاً. ولكن لا مناص, فلم أكد أصل إلى الشارع المحاذي لمكان عملي, لأجد الجموع الغفيرة تنتظر كأيتامٍ أضناهم الجوع بعد يوم عملٍ طويل. كلٌ كان ينتظر سيارةً تقله إلى حيث يقطن, وفي ظلِ أزمة لا أكاد أفهم كنهها كان الأمر يحتاج معجزة من نوعٍ ما, لنصل إلى بيوتنا في دقائق_ كما هو مفترض.
لا أعلم لِمَ يفقد سائقو سيارات الأجرة رغبتهم المقيتة في إيصال الناس إلى بيوتهم في ساعة الحشر تلك! يمط أحدهم شفته السفلى بدلالٍ يدعو للسخط, ويتمنع حتى عن تهدئة سرعة سيارته ليسمع وجهة كلٍ منا. وبعجزٍ يائس نظل نحن ننتظر "الفرج", ويُفضِّل من بقي فيه فضلٌ من طاقةٍ السير قليلاً, فربما زاره الحظ في بقعةٍ أخرى غير هذه الملعونة.وقفت انتظر وقصيدة "أحمد العربي" تصدح في مخيلتي, بعد أن دسست سماعات هاتفي المحمول في أذنيَّ لأتجنب ذاك الضجيج الخانق. وانخرطت في مونولوجٍ فردي حزين.
"وكنت وحدي, ثم وحدي, آه يا وحدي!"
وكانت السيارات تتجاهلني بشكل متعمد, وكنت أحرك يداي كقائد أوركسترا ممسوس.
"عشرين عاما كان يسأل .. عشرين عاما كان يرحل/عشرين عاما لم تلده أمه إلا دقائق, في إناء الموز!"[1]. وبرز السؤال في رأسي كفقاعة صابون: لماذا اختار درويش إناء الموز بالذات؟ قطعت حيرتي سيارة أجرة صفراء بلون الموز, ونظر السائق إليَّ مشفقاً لأن سيارته كانت قد امتلأت للتو.
في خضم كل ذاك, اخترق صوتٌ ما سماعات أذني, فما كان مني إلا الالتفات نحو مصدر ذاك النفير الغريب. كان الصوت صوت بوق, يختلف عن بقية أبواق السيارات الأخرى. ظهر خيالٌ ضخم على امتداد بصري لعربات لونها أحمر طفولي. اعتراني الذهول لوهلة, إنه قطار!
وبلون أصفر _كالموز أيضاً_ كُتب: "قطار غزة الترفيهي للرحلات وللأفراح". قرأتها وأنا أغالب ضحكة مريرة اجتاحتني على حين غرة, وسرت عدوى الضحك بين الجمع المنتظر وكأن الجميع كان يتوق إلى أمرٍ يخفف وطأة الانتظار. تلقائياً أوقفت استرسال القصيدة التي كنت اسمعها, و كمن اكتشف لعبةً جديدة, صرت أحدق بركاب القطار وكأنهم أسماك زينة داخل حوضهم المزين. لأفاجأ بسائق القطار يصيح: "يلاَّ جلاء .. يلاَّ الشيخ رضوان"[2], فتدافع البعض للركوب غير آبهين بسخرية البقية.
فكرت ما الذي قد يحوّل قطاراً_ أو تلك العربات الثلاث المربوطة معاً بطريقةٍ ما_ إلى سيارة أجرة كبيرة؟ كل الأمر بدا مؤلماً ومضحكاً سوياً. انتشلني من حيرتي رجل عجوز كان ينتظر بجانبي: "إيه ساق الله أيام زمان يا عمي لما كنَّـا نركب القطار بجنيه[3] و نروح على مصر!"
تيقظ ذهني على حقيقة غابت عني, نعم هذا ليس أول قطارٍ في غزة! نعم, كان هناك قطار, قطار حقيقي, قطار يتصاعد منه البخار, ولم يكن للترفيه أو للأفراح, ولم يتحول إلى سيارة أجرة قط! وكانت له سكة حديد, نعم تلك نفسها التي أقيم فوق بقاياها "سوق السكة" في حيّ "الشجاعية" شرق غزة. كانت سكة الحديد تلك تصل إلى الشمال: إلى سوريا ولبنان و رأس الناقورة وعكا وحيفا ويافا, وتخترق المدى إلى غزة, ومن ثم تتابع الدرب إلى مصر.
كان هناك قطار, بلا حدود.
قطار, وجموع غفيرة تنتظر, ولكن بلا بؤس!
جاء "الفرج", و وجدت سيارةً تقلني للمنزل, أعدت تشغيل القصيدة من جديد.
"وأعدُّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
و تتركني ضفاف النيل مبتعداً
وأبحث عن حدود أصابعي فأرى العواصم كلها زبداً"[4]
___________________
[1]من قصيدة "أحمد العربي".
[2] أحياء في مدينة غزة
[3]الجنيه الفلسطيني.
[4]من نفس القصيدة السابقة.
غزة في ظل أزمة المواصلات حالياً 2012 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق