الأحد، 22 أبريل 2012

فُسْحَة




وككل يومٍ: تُصدر أقلام الرصاص صريرها الباهت على الكراساتِ, تُشكِّل الحروف خطوطهم الصغيرة والمضطربة والتي لم تنضج بعد. تجلس أجسادهم الصغيرة باضطرارٍ على مقاعدهم الدراسية المهترئة, يحاولونَ دفع الوقتِ كيفما اتفق, لكنَّ العَشْرة دقائق الأخيرة تكون الأطولَ دوماً! تشرئبُ الأعناق التي _مهما طالت_ تظلُّ عاجزةً عن وصول حافة النافذةِ دون شبهِ وقوفٍ سريع. ويضيعُ مجهودُ المعلمةِ سدىً كلما حاولتْ استغلال تلك اللحظاتِ الأخيرة في حلِّ تمرينٍ جديد, إذ لا طباشير ملونة ولا لعبة جديدة ولا أسلوبَ مرحٍ قد يستجلبُ كاملَ انتباههم الآن! تستفزهم الأشياء كُلَّها_ حتى الهواء_ لتراهم يختلقونَ شِجاراً من اللاشيء, وقدْ تتوقف كلُّ حواسهم أحياناً عنْ العمل عدا السمع الذي يرهفونه تماماً حيثُّ يخيّل لهم دوماً أنَّ آذانهم التقطت رنينَ جرسِ "الخلاص"!

يدّقُ أخيراً.

ينفلتونَ من حبْسِهم, يحلِّقون كأفراخِ حمامٍ تعلّمت لتوها كيف الطيران في سماءِ ساحةِ المدرسة المكتظةِ بِهمْ, يتبخرون! يتناثرون كحباتِ مَسْبحةِ شيخٍ وقور, قُطع خيطها على حينِ غفلة. ينهمرون كغيثٍ ربيعيٍ مُفاجئ, يركضون نحو مقصف المدرسة كأمواج بحرٍ من وجوه. يتزاحمون, يتجاذبون, يتدافعون, يتشابكون, يلتحمون, يتعاركون. يَسْقُطُ ما اشتراه أحدهم تحتَ الأقدام, يَنْسَحِقْ. يختفي الوجه الباكي في غيمة غبارٍ مولودةٍ من تدافعهم اللامنتهي!

الدمعةُ غدت شحوباً كسا وجه شعبي وامتزج بالجلد تماماً, ليصبحَ ميزة! فكَكُلِّ الأيام: ننتظر, يحينُ الوقت, ننفَلِتْ, نركضْ, نتدافعْ, نتشابك, نلّتحم, نتعاركْ. يسقطُ كيسُ طحينِ أحدهم عند استلام "كوبونة" المؤن كلَّ شهر, تسقطُ ربطةُ خُبْزِ أحدهم في زحام المخبز ذاتَ أزمة, تَنزْلِقُ زجاجةُ الكاز من يدِ غزيٍّ يومَ حصار, تسقطُ الروح في انتظار تيارٍ كهربائي كُلَّ عَتْمة. نَنْسَحِقْ. تختفي الوجوه الباكية في غيمة غبارٍ مولودةٍ من انتظارنا اللامنتهي!

يدّقُ الجرس ثانيةً.

ينحسرُ مدُّ الأطفالِ إلى صفوفهم مجدداً. وينحسرُّ كلٌّ منَّا إلى قوقعةِ انتظاره مُجدداً. نجلس باضطرار, ونحاول دفع الوقتِ كيفما اتفق, ولكنَّ تلكَ الدقائقْ الأخيرة تكونُ الأطولَ دوماً! 


هناك 8 تعليقات:

  1. وكم من فُسح الدنيا نضيعها ونحن نتزاحم نتدافع نتلاحم نتشابك نتعارك ، وفي النهاية تحتفي وجوهنا الباكية و نسقط خائري القوى أمام تلك الحيتان التي تلوكنا تحت اسنانها ، ونعيد السقوط كل مرة من جديد ، لم نفكّر يوما كيف ندفع بأنفسنا للخروج، للحل ، للملاذ ، للهروب ، لأي شيء غير السقوط
    أعتقد انه بعد ذلك لن يكون لنا جرس يقرعه غيرنا ، سنصل الجرس ونقرعه بأيدينا
    نص باذخ بأفكاره ، رائع بلغته ، جميل بإيقاعه
    اقرأ هنا شيئا يقرأ ثم يقرأ من جديد

    ردحذف
  2. a piece of art. simply beautiful. but i still hate you because you do not write in English or translate your stuff into English

    ردحذف
  3. الفسحةُ التي نمتلكها دائماً لها طقوسها الخاصة المتفردة ، تبدو لنا في كثيرٍ من الاحيان القطرةُ اليتيمة كسيلٍ عارم ، ففي النفسِ ظمأ يتكرر ولكنَّ العطشَ الأخيرْ هوَ الاطولُ دائماً ...

    جميلٌ حرفك ، ورائعةٌ تلك الصور التي امتلأ بها نصك ، والأروعُ هو رسمها بقلمكِ هنا ،،،

    بانتظار الفسحة الجديدة

    ردحذف
  4. فسحة جميلة أخت نور .. ننتظر كل جديد وممتع :)

    ردحذف
  5. نحيا حياتنا في مجموعة من الدوائر المتشابهة في الاساس والمتنوعة في التفاصيل..كل دائرة لها اتساعها وتفاصيلها...ولكنها في كل حال تتبع نفس الاساس بلا خلاف...حددت السنن الكونية تلك الاسس وجعلتها بلا تحويل او تبديل.
    قيل ان الحكيم هو الذي يستطيع الوصول بادراكه الى كنه تلك الاسس كيف تسير وتدار من خلال علاقته المباشرة مع التفاصيل والاحوال اليومية المتكررة.
    ان لحظة تأمل كفيله بصنع عظماء...هذا الطرح الرائع كان نتيجة لحظة عبقرية استطاعت وصف الاحوال القائمة ودمجها مع حلقة اعظم واهم...هنا كان جمال الفكرة وعظمتها اكبر من نسيج الكلمات الرقيقة والجميلة التي يحويها المقال.

    تقبلي هذا المرور والكثير من التحية

    ردحذف
  6. رآائعةٌ حدّ الألمْ ..

    ..

    آه لكَ يا وطنْ !

    ردحذف
  7. جميلة تلك الكلمات .. تستحق أن تكون بين دفتي كتاب :)

    بالتوفيق في المسابقة ..

    ردحذف