وككل يومٍ: تُصدر أقلام الرصاص صريرها الباهت على
الكراساتِ, تُشكِّل الحروف خطوطهم الصغيرة والمضطربة والتي لم تنضج بعد. تجلس
أجسادهم الصغيرة باضطرارٍ على مقاعدهم الدراسية المهترئة, يحاولونَ دفع الوقتِ
كيفما اتفق, لكنَّ العَشْرة دقائق الأخيرة تكون الأطولَ دوماً! تشرئبُ الأعناق
التي _مهما طالت_ تظلُّ عاجزةً عن وصول حافة النافذةِ دون شبهِ وقوفٍ سريع. ويضيعُ
مجهودُ المعلمةِ سدىً كلما حاولتْ استغلال تلك اللحظاتِ الأخيرة في حلِّ تمرينٍ جديد,
إذ لا طباشير ملونة ولا لعبة جديدة ولا أسلوبَ مرحٍ قد يستجلبُ كاملَ انتباههم
الآن! تستفزهم الأشياء كُلَّها_ حتى الهواء_ لتراهم يختلقونَ شِجاراً من اللاشيء,
وقدْ تتوقف كلُّ حواسهم أحياناً عنْ العمل عدا السمع الذي يرهفونه تماماً حيثُّ
يخيّل لهم دوماً أنَّ آذانهم التقطت رنينَ جرسِ "الخلاص"!
يدّقُ أخيراً.
ينفلتونَ من حبْسِهم, يحلِّقون كأفراخِ حمامٍ تعلّمت
لتوها كيف الطيران في سماءِ ساحةِ المدرسة المكتظةِ بِهمْ, يتبخرون! يتناثرون
كحباتِ مَسْبحةِ شيخٍ وقور, قُطع خيطها على حينِ غفلة. ينهمرون كغيثٍ ربيعيٍ مُفاجئ,
يركضون نحو مقصف المدرسة كأمواج بحرٍ من وجوه. يتزاحمون, يتجاذبون, يتدافعون,
يتشابكون, يلتحمون, يتعاركون. يَسْقُطُ ما اشتراه أحدهم تحتَ الأقدام, يَنْسَحِقْ.
يختفي الوجه الباكي في غيمة غبارٍ مولودةٍ من تدافعهم اللامنتهي!
الدمعةُ غدت شحوباً كسا وجه شعبي وامتزج بالجلد تماماً,
ليصبحَ ميزة! فكَكُلِّ الأيام: ننتظر, يحينُ الوقت, ننفَلِتْ, نركضْ, نتدافعْ,
نتشابك, نلّتحم, نتعاركْ. يسقطُ كيسُ طحينِ أحدهم عند استلام "كوبونة"
المؤن كلَّ شهر, تسقطُ ربطةُ خُبْزِ أحدهم في زحام المخبز ذاتَ أزمة, تَنزْلِقُ
زجاجةُ الكاز من يدِ غزيٍّ يومَ حصار, تسقطُ الروح في انتظار تيارٍ كهربائي كُلَّ
عَتْمة. نَنْسَحِقْ. تختفي الوجوه الباكية في غيمة غبارٍ مولودةٍ من انتظارنا
اللامنتهي!
يدّقُ الجرس ثانيةً.
ينحسرُ مدُّ الأطفالِ إلى صفوفهم مجدداً. وينحسرُّ كلٌّ
منَّا إلى قوقعةِ انتظاره مُجدداً. نجلس باضطرار, ونحاول دفع الوقتِ كيفما اتفق,
ولكنَّ تلكَ الدقائقْ الأخيرة تكونُ الأطولَ دوماً!